كم أنت مفيد أيها الألم، تخيل لولا الألم لما سعى أحد إلى علاج.
لولا الألم لانتشر الداء واستشرى واستعصى على العلاج.
لولا الألم لما انتبه أحد إلى مريض ولا تعاطف معه.
الألم يفجر مشاعر الرحمة والمؤازرة، ويقهر الكبر والخيلاء في نفس صاحبه.
تدبرت هذه المعاني حين اعتراني مرض بدون ألم، فلم اكترث له، ولم أعره اهتمامًا، وكنت أسوف في مراجعة الطبيب يومًا بعد يوم، حتى فاجأتني آلام مبرحة فهرولت في نفس اللحظة لعمل كل الفحوص والأشعات، وراجعت فيها أكثر من طبيب في تخصصات مختلفة، حتى تم التشخيص وتم العلاج والحمد لله، حينها تعجبت كيف يدبر الله لعباده ما فيه خيرهم ولو ترك الناس لشأنهم لفسدت الأرض.
فالله عز وجل يداوينا بالآلام حتى نصل إلى العافية، إن الآلام الشديدة هي نفسها الدافع المحرك للشفاء، وإن أخطر الأمراض هي التي تنتشر في صمت حتى تفتك بصاحبها، والأمم كالأفراد في أحوالها تتبدل بين الصحة والسقم، وبين الألم والأمل، فلا تجزعوا لما يوجد في أمتنا من قلاقل ومشكلات، وحادثة هنا وأخرى هناك، فكل هذه الآلام هي مقدمة العافية، وكلما زاد الألم كان ذلك أحرى لسرعة طلب العلاج ووضوح موطن الداء ودقة التشخيص.
أما المجتمعات الراكدة فلا تنتبه لعظم الداء حتى ينتشر كالسرطان فيهلكها، لذلك نحمد الله تعالى أن مواطن الآلام داخل مصر واضحة، وهى محددة في ثلاث تجمعات، فإذا شخصنا المرض وأسبابه، سهل علينا العلاج بشقيه علاج سريع حاسم للأعراض وتسكين الألم، ثم علاج للمرض نفسه وأسبابه بعد الهدوء والاستقرار:
1. الوجع الأول: والأعلى شكوى، والأشد ألمًا هم طائفة الفقراء والمعدومين ومحدودي الدخل، ويلحق بهم في نفس درجة الإيلام مع اختلاف السبب أطفال الشوارع والبلطجية، والسبب في ألامهم هو بالأساس العوز والحاجة، وإحساس مرير بالظلم والتهميش، وبخس الحقوق، وهم صادقون في كل ذلك وأكثر، وقد صبروا بما فيه الكفاية حتى ملهم الصبر.
2. موطن الألم الثاني: هم الأغنياء والمترفون (الشرفاء نظيفي اليد) وكبار الموظفين، ومع أنهم أقل عددًا لكنهم أعلى صخبًا وشكوى من الطائفة الأولى، ولا يقل الألم الصادر عنهم إيلامًا ووجعًا للوطن، والسبب في آلامهم أنهم يشعرون بأن هناك حقد طبقي تجاههم، واتهامات لنظافة أموالهم التي اكتسبوها بتعب وعرق، ومن وجه حلال وعدم التمييز بين الأغنياء بطرق مشروعة وغيرهم ممن تطفح بهم مصر ممن اغتنوا من قوت الشعب ودمه.
3. الوجع الأعظم والألم الأشد فتكًا هم طائفة الشباب وأقصد بهم خريجي الجامعات والمتعلمون العاطلون عن العمل، والذين ذكرهم أحدث تقارير الأمم المتحدة أن النسبة الأعلى في العالم من البطالة هم الشباب في العالم العربي، والنسبة الأدنى في العالم مشاركة في التنمية، والنسبة الأعلى في العالم من حيث العزوبية والعنوسة، والنسبة الأعلى في العالم هجرة للكفاءات، وقد هالني هذا التقرير ويرجى الرجوع إليه في موضعه.
وهذا الوجع هو الأعظم والأقسى، ويشهد على ذلك حال أي بيت فيه شاب عاطل عن العمل حتى ولو أغنياء مستورين لا يحتاجون عمله ماديًا، وراجعوا ملفات الحوادث والجرائم بأنواعها، والأمراض النفسية.. وهذه الحالة نحن جميعًا السبب، ونحن جميعًا المصابون من الأم التي لم تربي في طفلها كيف يكون قادرًا على الكسب، إلى أصحاب المعاشات الباقون في مناصبهم حتى الممات.
وطننا كالجسد الواحد قلبه النابض هم الشباب، وسواعده الفتية هم الطبقة العاملة الكادحة، وساقاه هم الأغنياء أصحاب الثروات، وعقله المدبر هم المفكرون والعلماء، فإذا اشتكى جزء تداعى له سائر الأعضاء.
لن يسير الوطن معتمدًا على ذراعيه، ولن يتم عملاً بساقيه، فكل ميسر لما خلق له، ولن يعمل العقل والقلب ضعيف واه، فالوطن كما يحتاج لسواعد أبنائه تبني وتعمر، يحتاج لسوق ثابتة تثب به إلى الأمام، وكما يحتاج لعقل مدبر واعٍ يحتاج لقلب فياض نابه، فلينهض كل بمسئوليته ويهتم بها، ويحسن أدائها، كل طائفة من هؤلاء لهم حقوق وعليهم واجبات، وعلى الجميع أن يعرف حقوقه فلا يفرط فيها، ويعرف واجباته فلا يقصر فيها.
لا بد من تكاتف الجميع وتعاطفهم، وتغليب النزعة الجماعية على الفردية، نشر ثقافة التعاطف والرحمة بين طبقات الشعب، والتخلص من داء التشيع وصراع الطبقات، التي أصلها ورسخ لها النظام البائد كسائر نظم الفراعنة، وجعل أهلها شيعًا يستضعف طائفة منهم، فقد حرص نظام مبارك على إفقار الشعب وإلهاؤه بلقمة العيش، وحرص على شراء ولاء سدنته وموظفيه بإغداق الأموال ومضاعفة الرواتب والامتيازات، وتوزيع مصر وخيرها عليهم، حتى اتسعت الهوة بين طبقات الشعب، بما لم يشهد تاريخ فساد الدول مثله إلا كما فعل سابقه فرعوِن موسى.
هذا هو الداء الذي خلفه مبارك وحاشيته، ومواطن الآلام التي تحتاج إلى طبيب بارع رحيم، وخبير بأمراض الأمم والشعوب، يسكن الألم أولاً ثم يعالج بعد ذلك بتروٍ ووضوح رؤية هذه المسكنات تؤلم أولا، لكن لا بد منها، لا بد من تغيير الوضع الاجتماعي القائم، وتحقيق العدالة الاجتماعية التي نادت بها الثورة بل الثورات العربية كلها، لا أدعو إلى مصادرة أموال وأملاك كما فعل (عبد الناصر) ولكن إعادة للمغصوب والمأخوذ بغير وجه حق، أيا كان وظيفة أو أراضٍ أو منح وامتيازات.
أخذ بدل انتفاع عن الفترات السابقة التي تمتعوا فيها بغير وجه حق بحقوق غيرهم، وإعادة الحقوق لأصحابها، انظروا إلى ما فعله عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه- الخليفة الخامس الذي بدأ بالأمراء، وبزوجته ابنة الخليفة السابق، فصادر أموالهم وخفض عطاياهم، ففاض المال في عامين حتى لم يجد من يأخذه، فاشتروا الغلال ووضعوها على سفوح الجبال لتأكل الطيور من خير المسلمين، وأخذ الحقوق وأولها حق الزكاة وما يعادلها من الأقباط، وقد قاتل أبو بكر -رضي الله عنه- مانعيها، لا نطلب صدقات ولكن في المال الخاص حقوق لا بد من أخذها، وتمهيد الوعي الشعبي لهذا بكل السبل.
أتفهم أن الناس وأنا منهم لم أكن أثق في الحكومة في العهد البائد، لكن مع الثورة واجبنا الوطني ووجود المؤسسات المنتخبة والرقابة ستتحقق الثقة، وتُبنى تدريجيًا، ولكن لا بد من دفعة مبدئية تبدد مخاوف الناس وتعزز ثقتهم، الداء واضح والعلاج أبين منه، ولكنه يحتاج لإرادة قوية وعزيمة ثابتة، وفوق ذلك وقبله حسن توجه إلى الله عز وجل، واعتماد عليه ولينصرن الله من ينصره..